مقارنة بين الأسطورة الرافدينية والتوراتية"ج2"

. . ليست هناك تعليقات:
- لم يكن في البدء سوى الماء ، المكون من عنصرين إلهيين أولهما مذكر ويتمثل بالمياه العذبة " ابسو "، وثانيهما مؤنث ويتمثل بالمياه المالحة " تيامة " وأنه نتيجة لامتزاج هذه المياه مع بعضهما ولد الآلهان " لخمو " ولخامو "، ومن بعدهما " انشار " وتيشار " اللذان ولدا الإله " آنو " الذي صار آلهاً  للسماء فيما بعد .

- وسرعان ما تكاثر عدد الأحفاد وأصبح صخبهم يقض مضجع جدهم الأعلى " ابسو " مما دفعه إلى التفكير في وضع خطة للقضاء عليهم، على الرغم من تحذير زوجته ( تيامة ) له من مغبة عمله، لكن الآلهة الفتية اكتشفت المؤامرة المدبرة ضدها ، وانتقمت لنفسها بقتل " ابسو "، ولما سمعت ( تيامة ) بذلك ثارت ثائرتها وعقدت العزم على الانتقام من الآلهة الفتية، وقد وقف عدد من الآلهة الموالين لــــ " ابسو " إلى جانب زوجته، وكونوا بذلك جماعة منشقة عن بقية الآلهة وراحوا يعدون العدة لشن حرب ضد الآلهة الفتية .

- هنا تنتقل الأسطورة إلى بداية المجابهة ثم الصراع بين قوى الشر المتمثلة بالآلهة القديمة وعلى رأسها ( تيامة ) وبين قوى الخير التي تمثلها الآلهة الفتية بزعامة ( مردوخ ) ، ولكن صغار الآلهة تراجعوا عندما رأوا الأسلحة المرعبة التي أعدتها ( تيامة ) لهم، وأخيراً بعد الأخذ والرد، وقع الأخيار على مردوخ ( ابن الهة الحكمة ) ليكون القائد والبطل المنقذ للآلهة الفتية، ثم يلتقي الجيشان ولم يلبث الاثنان أن اشتبكا في نزال فردي أول الأمر، بعد ذلك أطلق مردوخ ي وجه تيامة كل الرياح الشريرة فاستقرت في جوفها وشلت حركتها، عندئذ باغتها مردوخ بسهم قاتل ثم شطر جسمها إلى شطرين اثنين خلق منهما السماء والأرض .

وخلاصة القول أن البابليين اعتبروا المياه أصل الوجود، وأن السماء والأرض تكونا نتيجة لعملية انشطار جسم ( تيامة ) إلى شطرين على يد الإله  مردوخ ، وأن هذه الأسطورة تصور لنا أيضاً، بالأسلوب الأسطوري، الأحوال السياسية ، والاجتماعية في بلاد الرافدين القديمة، في أولى مراحل تكوينها الحضاري، إذ تصور الأسطورة الكون على هيئة دولة يحكمها الآلهة حماً " دستورياً " كانت القرارات فيه تتخذ في مجالس شورى بطريق الاقتراع، وثمة أمر آخر مهم نستنتجه من الأسطورة، هو ذلك العنف والصراع اللذان رافقا عملية الخلق والتكوين، وما هذا إلا صورة عن العنف الذي تتميز به الطبيعة التي ظهرت فيها حضارة وادي الرافدين .

- كان البابليون يرون أن آلهتهم ليست معصومة من الخطأ، وكانوا يعتقدون أنها عظيمة تتصف بالقوة والحكمة، ولكنها كانت تخطئ وقد أنفقوا جانباً كبيراً من الوقت لمعرفة مكانة الإنسان من الكون وعرفوا أن الفارق الوحيد الذي يتميز به الإنسان عن الحيوان هو الذكاء، وأن آلهتهم كانت ذكية أيضاً، ولكنها كانت تمتلك شيئاً آخر لا يملكه الإنسان، إنها تملك الحياة الخالدة ، وقد اعتقد البابليون بأن شيئاً ما من الآلهة قد استعمل في خلق أول إنسان من مزيج مكون من دم ألاهي وطين آدمي، وقد كانت هذه النظرية أحد التفسيرات لخلق الإنسان .

- أما الأساطير السومرية فأن اتصالها ضعيف بالشعائر والطقوس، أنها أساطير أدبية ، ذات طابع استفساري، وتحوم بصورة رئيسة حول خلق الكون ، وتنظيمه ، وحول ولادة الآلهة ، وعشقها ، وكرهها، وأحقادها، ومؤامراتها، وبركاتها، ولعناتها، وأعمالها في الخلق والتدمير، ولا يوجد بينها ذلك الصراع الحاد بين الآلهة من أجل السلطة .

أن أهم العناصر والأجزاء التي كانت تؤلف الكون، في رأي المعلمين والحكماء السومريين، هي( السماء والأرض) حيث صار المصطلح الذي أطلقوه على الكون هو ( ان - كي )  أي السماء والأرض، ورأوا الأرض وهي على هيئة قرص منبسط ، وأن السماء فراغ مغطى من الأعلى ومن الأسفل بسطح صلب على هيئة عقد، ولكن لا يعرف بوجه التأكيد مادة ذلك الجسم السماوي الصلب، وميزوا عنصرا ً بين السماء والأرض دعوه ( ليل ) وهي كلمة أقرب معانيها ( الهواء ) واعتقدوا في الشمس والقمر والكواكب والنجوم وأنها مكونة من نفس المادة ( الجو ) ولكنها تتميز علاوة على ذلك بصفة الإشراق والإضاءة، ومن هذه الآراء والاعتراضات الأساسية المتعلقة بتركيب الكون وتأليفه والتي كانت تبدو للمفكرين السومريين حقائق واضحة لانتزاع ولا شك فيها، كونوا آراء مطابقة في أصل الوجود والأشياء واستنتجوا وجود ما يمكن تسميته ( بالبحر الأول )، وفي البحر الأول تولد الكون بوجه ما أي ( السماء والأرض ) السماء الموضوعة فوق الأرض المنبسطة والمتعلقة بها

-  فمن خلق هذا الكون وجعله يجري على مر الأيام والسنين وعلى مر العصور والدهور ؟ والجواب على ذلك أن أهل اللاهوت السومريين افترضوا افتراضاً مسلماً بحقيقة وهي وجود مجموعة من الآلهة قوامها كائنات حية شبيهة في هيأتها بالإنسان ولكنها فوق الإنسان وخالدة .

وهي أن كانت لا يمكن رؤيتها بين الإنسان الفاني، تسير الوجود وتسيطر عليه بموجب خطط مضبوطة، ونواميس معينة مفرزة، فكان أحد تلك الكائنات مسؤولاً عن كل جزء هام من هذا ا الكون مثل السماء والأرض والبحر والهواء ... ولما كنوا لم يروا أياً من هذه الكائنات الشبيهة بالإنسان بأعينهم، فأنهم اشتقوا صورتها الأولى من المجتمع البشري كما عرفوه ، واستلوا من المعلوم على المجهول .



يتبع الجزء الثالث

المصدر: المادة بقلم الأب سهيل قاشا ، نشرت في مجلة " الأتجاه " العدد الثامن،شباط 1998.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الزيارات

تابعنا على الفيسبوك

الأرشيف

من مضمون المقالات

أقسام المدونة :

الصفحة الشخصية

تابعونا

Translate - ترجمة