أما عن أساليب
الخلق التي ابتعتها تلك الآلهة الخالقة، فقد وضع الفلاسفة السومريون مبدأ صار عقيدة
سائدة في جميع الشرق الأدنى، وهو مبدأ القوة الخالقة للكلمة الإلهية، وبموجب هذا المبدأ كان كل ما ينبغي للإله الخالق
أن يفعله هو أن يصمم الخطط ويقول ( الكلمة ) وينطبق بالاسم ( اسم الشيء المراد خلقه
) .
وليس من الإمكان
القول بأن فلسفة الكون عندهم هي ضرب نتيجة الآراء البدائية، مهما بلغ قدمها، ذلك
لأنها تمثل مدارك الفكر السوري ونضوج آرائه وتأملاته في قوى الطبيعة وفي خصائص وجوده
في هذا الكون وعند تحيل هذه الآراء وإزالة المسحة اللاهوتية عنها يتضح لنا أن تصورات
الخليقة لديهم تدل على ذهنية تمتاز بدقة الملاحظة والقابلية على الاستقراء والاستنتاج
من المقدمات الملاحظة والمحسوسة، وأنهم كانوا ينظرون إلى علل الأشياء والحوادث من
وجهة نظر من ( يحدثها ) وليس ( كيف تحدث ) أو ( لماذا تحدث ) فمثلاً إذا ارتفع منسوب
المياه في دجلة، كان السبب في أن النهر يرتفع لغضبه أو لغضب الآلهة التي تحكم على
البشر.
- أن ملخص ما نستنتجه
من المعتقدات التي كونها السومريون لأنفسهم عن الخلق وأصل الأشياء ما يلي
:
* في البدء كان
( البحر الأول )
* من مياه البحر ( ولد ) أصل كوني يمثل السماء والأرض متحدين
* نتيجة لاتحاد
السماء والأرض ولد آله الهواء ( انليل )
* إن الآلهة انليل
فصل السماء عن الأرض
* بعد ذلك خلقت
الكواكب والنجوم وظهرت معالم الحياة على الأرض.
- أما الغالب على
تصور القدماء لأرواح الموتى فهو أنها على هيئة الطيور كما يظهر ذلك في أسطورة ( زوطير
الصاعقة )، ويشاركهم هذا التصور بعض الأقوام القديمة مثل المصريين القدماء الذين صوروا
أرواح الموتى على هيئة فراشة .
أن الأمر الذي
يثير التساؤل في أساطير خلق الإنسان في بلاد الرافدين القديمة هو القصد من جعل دماء
الآلهة المذبوحة تدخل في عملية ذلك الخلق، ويرجح هنا أن يكون القصد أضفاء مسحة من
القدسية على الإنسان ليكون أهلا ً لخدمة الآلهة دون أن تيسر له تلك القدسية نيل الخلود
مثل الآلهة والغرض الثاني هو الحياة نفسها ممثلة بالدم ، وأن هذه الحياة تحت سيطرة
الآلهة تتحكم فيها أذ ليست الحياة إلا نعمة وقتيه للبشر .
وتتفق المآثر السومرية
والبابلية على ثلاث نقاط جوهرية بخصوص خلق الإنسان :
1- أن خلق الإنسان
لم يكن غاية في حدا ذاتها، أو نتيجة مكملة لبقية مراحل خلق الكون .
2- أن الإنسان
خلق من طين .
3- إنه خلق من
أجل خدمة الآلهة، أي من أجل أن يكد ويكدح في سبيل أطعامها وبناء معابدها.
* طبيعة التفكير
بالخليقة في سفر التكوين :
أن سفر التكوين
هو بإجماع المعنيين، أهم مصدر في اليهودية يتعلق بمشكلة أصل العالم ومشكلة الزمن،
وذلك لقدمه ، وتخصصه في الحديث عن قصة الخليقة ، غير أنه لا يقدم لنا قصة واحدة للخليقة
بل عدداً منها ، والقصة التي وضعت حادثها في الإصحاح الأول من سفر التكوين، يبدوا
أنها أقل القصص انتشاراً بين سواد الناس .
- وقصة الخليقة
هذه تتصدر التوراة وتمثل أقصى ما بلغه الفكر اللاهوتي العبراني من التطور والتقدم،
بالرغم من عدم اختلافها كثيرا ً عن بقية قصص الخيقة الواردة في الكتب الأخرى غير التوراة، وهي مع ذلك مجرد قصص من نمط واحد، والظاهر أنها ألفت في أوساط منغلقة وحكمت عليها
من الضرورة البقاء محصورة هناك، وإلا تعرفت عليها عامة الناس .
- فحول بداية العالم
ومن أي شيء وجد، وموقع الزمان ، نجد المعنيين المحدثين هنا يذهبون مذهبين رئيسيين
:
الأول : أن الآيات
1-2-3 من الإصحاح الأول من سفر التكوين (( في البدء خلق الله السموات والأرض، وكانت
الارض خربة خالية على وجه العمر ظلام وروح الله يرف على وجه المياه، وقال الله ليكن
نور فكان نور ))، تعلم الثنائية، ثنائية الله والمادة، فهي تتلكم كما جاء في قصة
الخلق البابلية عن خليط من ماء وظلمة وتسمية " tehom " وهي مرادف للكلمة البابلية
" تيامات - tiamat " وأن فكرة الخلق من العدم لا توجد أبداً في التوراة .
الثاني : أنها
تقرر كيفية خلق الكون بشكل عام، غير أن الآية الأولى وبخلاف الآيات الأخرى من الإصحاح
الأول تتحدث عن الخلق بشكل مفصل وعن جزء منه وهو الأرض .
- مما تقدم في
أساطير الخلق القديمة لم تعرف أبداً فكرة الخلق من عدم ، فمنذ السومريين والبابليين
كان هناك الماء او المحيط ومنه ظهرت الآلهة الخالقة ، ومنه صنعت الأرض والسماوات بان
قسمتها الآلهة فجف قسم منها وكون الأرض، وصعدت أبخرة ودخان وكون منه مردوخ السماوات، ويمكن القول إن
الفكر الأسطوري القديم يصنع المادة الأولى أولاً ومنها توجد الآلهة ( مع البابليين
) .
ثم اعتبرت المادة
والله معاً في الوجود وليس أحدهما مثل الآخر ( في التوراة )، والمسألة الأخرى في سفر
التكوين هي أن الله أزلي أبدي ، ونجد استعمالا صريحاً لكلمة الأول والأبد، والأزلية، والدهر، أما مفهوم الزمان في سفر التكوين فيتحدث عن إيجاد العالم في ستة أيام،
أي أن اليوم الدنيوي المعروف لدينا لم يوجد إلا في اليوم الرابع مع صنع الشم والكواكب
والقمر ( التكوين 14-19 ) .
- لقد أشار الكسندرهايدل ، إلى أنه في كلا القصتين البابلية والتوراتية، نجد الضوء، ويخلق مثل السماء
والأجسام السماوية، كذلك، فمن الغريب أن يُوحد الله النباتات والبحار في اليوم الثالث
قبل خلق الشمس والكواكب، الذي تم في اليوم الرابع، مع أنه لا توجد تلك بدون هذا
..
- ( وقال الله
لتكن نيران في جلد السماء لتفصل بين النهار والليل وتكون الآيات وأوقات وأيام وسنين
وتكون نيران في جلد السماء لتضيء على الأرض فكان كذلك فصنع الله النيرين العظيمين ،
النير الأكبر لحكم النهار، والنير الأصغر لحكم الليل والكواكب، وجعلها الله في جلد
السماء لتضيء على الأرض ولتحكم على النهار والليل وتفصل بين النور والظلان، ورأي الله
ذلك أنه حسن وكان مساء وكان صباح يوم رابع ) .
- كذلك نرى في
الصحاح السادس من سفر التكوين، أنه كان لله أولاد ذكور، وأن هؤلاء الذكور قد فتنهم
جمال بنت الآدميين اللاتي كان عددهن ق كثر في الأرض، فاتخذوهن خليلات، وولد لهم منهن
نسل هم ( الجبابرة ) الذين سكنوا الارض قبل
حدوث الطوفان أما أغرب صورة للإله، فنجدها في الإصحاح الثاني والثلاثين من سفر التكوين، حيث إن يعقوب قد لقي الإله ذات ليلة وتصارعا حتى بزوغ الفجر من دون أن يستطيع الإله
التغلب عليه ، ولما تعب الله في المصارعة طلب من يعقوب أن يطلقه لكن يعقوب أبى ذلك، إلا أذا باركه، ففعل، فقبل الله شرطه وباركه ويسأله عن أسمه، فقال : يعقوب، فقال
الله، لن تسمى بعد الآن يعقوباً، بل تسمى " إسرائيل " لأنك كنت قوياً على
الإله .
- نرى هذا الاضطراب
في فكرة الإلوهية ، يعود إلى أن تدوين التوراة قد أستمر حتى بعد وفاة موسى مما أدى
إلى احتوائها على نظريات ( خرافية )، وذلك لإدامة شيئين :
أولاً : إعداد
بني إسرائيل لمواجهة تحديات الأقوام الأخرى منعاً للذوبان .
ثانياً : بناء
طبقة رجال الدين والكهنة على رأس الهرم الاجتماعي والاقتصادي الإسرائيلي لمدة طويلة
.
يتبع الجزء الرابع..
المصدر: المادة بقلم الأب سهيل قاشا ، نشرت في مجلة " الأتجاه " العدد الثامن،شباط 1998.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق