عاد السفير المرسل إلى الملك " سابور " إلى تدمر بعد غياب عدة أشهر وكان والدي قد توفي على الطريق أثناء عودته إلى تدمر ، فقد قتلته الشمس وأرهاق السفر ، بقدر ما قتله فشله في مهمته .
وقبل أن يبلغني أوذينة بالخبر المحزن، سمعت صرخة ندت عن سكان القصر، ورأيت مرضعتي تهرع مرتبكة بإتجاهي، ثم انطلقت من حنجرتها زنجرة بائسة وكأنها حيوان جريح وسقطت على أقدامي، ودخل زباي، والأمير إلى القصر كانت مباركت قد علمت بالأمر، فوقف أوذينة أمامي وتلكم بدون مقدمات، ولا حيطة لى الظروف التي ألمت بوالدي ، وأدت إلى النتيجة البائسة ، كان يتكلم كما يتلائم مع طبيعته ، مع محاولة لإظهار مشاعر الود التي لا يحفظها لعمه أو ابنته .
وكان شعور آخر يكاد يخنقه من الغضب ، وأدى إلى اسوداد وجهه ، ولمعرفتي به بأنه لن يتأخر عن إظهار غضبه لأسباب تافهة ، توجه تفكيري بسرعة ناحية موت والدي وناقشت الأمر مع نفسي ، فلم أجد أي رابط ، ما بين حادثة الوفاة وغضب أوذينة ، ولم أتخيل شيئا ً عندما استمعت إلى رواية زباي .
- كانت كوكبة فرسان النبل، التدموريون والتي كان يقودها زباي، ومهمتها تأمين الحماية للسفارة التدمورية قد وصلت شالسي بدون أية صعوبات تذكر ومن ثم على ضفاف الفرات، هناك حيث يتعرج النهر ناحية الشمال، فابتداء من ذلك المكان، وجب أتخاذ الحيطة والحذر، والبقاء في حالة تيقظ، واستعداد تام، كان الأمر، واضحاً، يجب عدم التقدم إلا بناء ً على معلومات الأستطلاع، المنقولة من قبل أدلاء غير موثوق بهم كثيرا ً، وكان الخطر يكمن في هجوم مباغت يقوم به مقاتلي البدو، بقدر ماكان الخطر قائماً في هجوم سريع تقوم به وحدات من جيوش الصحراء، الذين يؤلفون عصابات متعطشة للدم والسلب ، والنهب .
- وفي أحدى الأيام ، إلتقى فرساننا حول بئر في الصحراء ببعض الجنود الفارسيين ، الذين كانوا يقومون بدورية اسطتلاع في المنطقة ، وعلم مترجمنا بأن الملك " سابور " قد أقام معسكره إلى الجنوب ، وعلى مبعدة ثمانية أيام من المسير ، وعلى شواطئ أحد أذرع الفرات ، وتحت ظلال واحة مخيل كبيرة ، ومنذ وصوله ، عرف والدي عن نفسه ، وعن المهمة الموكولة إليه ، والرسالة التي يحملها إلى ملك الملوك " ولا يخفى على أحد أن هذا اللقب ، كان يستعمله البابليون ، وأضاف والدي ، بأنه حامل لهدايا ثمينة جداً ، وأجابه أحد جنود الفرس ، أنه بإنتظار القرار الملكي ، فإن على سكان تدمر البقاء خارج حدود المعسكر ، ووافق والدي على ذلك ، فهو يعلم أن قدرة زعيم كبير ، تقاس بالوقت الواجب تمضيته أمام بابه ، وبعد مضي بضعة أيام أعلن أحد الضباط الفرس ، بأن السفارة التدمورية ستستقبل صبحية اليوم التالي ، ولكنه في اليوم التالي ذهب الملك في رحلة صيد ، ولهذا كان من الواجب إنتظار عودته ، لتحديد موعد لقاء آخر، أما زباي فلم يتذكر عدد الأيام ، والليالي ، التي مضت عليهم بأنتظار عودة الملك سابو وأخيرا ً حدث اللقاء بين مبعوث أمير تدمر والملك .
- كان سابور محاطا ً بكوبكة من جنده المدرعين الذين كانوا يرتدون زيا ً طويلا ً مثل ملكهم، مزخرفا ً بخيوط الذهب، وتم اللقاء على ضفاف النهر، فالملك وجنوده على خيولهم، بينما تقدم السفير التدموري سيرا ً على الأقدام، حتى وصل أمام الملك ومد له يده بالرسالة، وعاد بضعة خطوات وركه على ركبتيه، بينما سارع زباي وكوكبة الفرسان التدمورية إلى عرض الهدايا النفسية على الأرض، فكان منها السيوف الدمشقية المطعمة بالاحجار الكريمة، وكان منها القلادات الذهبية ، والمرصعة بأحجار الماس إلا أن سابور، لم يكلف نفسه عناء قراءة الرسالة فمزقها قطعاً ثغيرة ونثرها في الهواء، ورد قائلا ً بأنه على أمير تدمر أن يأتي بنفسه راكعاً أمامه وطالبا ً رحمته والعفو عنه، على أن يكون مكبلا ً بالأصفاد، وبعدها ترجل جنود الملك فحملوا والدي، الهدايا النفيسة وألقوا بهم في النهر، واستدار الملك وجنوده، منطلقين بجيادهم، وهم يطلقون القهقهات المجلجلة بينما سارع زباي إلى القفز في النهر، لإنقاذ والدي الذي ابتلع كمية من المياه وهو لا يعرف السباحة فسحبه إلى حافة النهر، وصعبد به إلى اليابسة .
وعند وصوله إلى هذا الفصل من الرواية، توقف زباي عن متابعة الحديث، والخجل يعصر كتفيه، فعندما غادر تدمر، كان ممشوق القد، وكلنه عاد من الرحلة، ضعيفا ً، مهزولا ً، فالعينان غائرتان وقد نتأت عظام وجهه، وبرزت عظمة أنفه، وكأنها شفرة خنجر حاد، أما نظرته، فلم تعد مصوبة إلى، بمعنى الأهانة، فكان كالطفل الصغير أمامي، الذي ارتكب ذنبا ً، ولا يدري ما يفعل، واجتاحتني رغبة عارمة في تطويقه بذراعي، لأخفف عنه مصابه، ونظرت إليه مباشرة في عينيه، لأنني كنت أنا زنوبيا، زوجة أمير تدمر، وزباي، ما هو إلا راكض رمال، عاد بيدين خاويتين ، وقلب منكسر .
وبإشارة من يد أوذينة، روى رحلته بكلمات متعثرة، وكأنه يتعثر بها، وخبرتي في الصحراء، كانت كافية لأتخيل عودة والدي، والحمى تهزه وآلام الرأس التي لم تفارقه، واضطراب الرؤية من أشعة الشمس القاتلة والإهانة التي تعضه، وتنهشه والتي لن تتركه للحظة واحدة، و تخيلته، غير مستقر على ناقته، متصلبا ً شاداً على شجاعته، منثنيا ً بصعوبة على رقبة ناقته، حتى لحظة إنهياره، وانقلابه على الأرض .
- وقبل بضعة أيام من وصوله تدمر، عاجلته المنية، ولم يقبل زباي دفنه في الصحراء فإن القبر فيها مهما كان عميقا ً، ستنبشه ذئاب الصحراء، لتسحب الجثة، وتنهشها، وعمد فرسان إلى لف الجثمان بخيمة، حتى وصولهم إلى هنا، لقد إنتهى، وعندما أطلقت مباركة حشرجتها، ركلها أوذينة بقدمه بعيداً.
- لم أكن موجودة أثناء مراسم الدفن، ولكني بقيت بجانب والدي، حتى لحظة نقله لإجراء المراسم ودفنه في القبر البرجي الذي ابتناه على قمة هضبة مطلة على واحة النخيل العظيمة، كنت وحيدة بجانبه فأردت استرجاع الأيام الخوالي، التي رحلت بدون أي أمل في العودة ، فتذكرت صوته ، ونظراته ، وحركاته ، وحاولت أن أتذكره عندما كان شابا ً قويا ً مسيطرا ً على نفسه ومطاعاً من قبل الجميع، لعل الهدف من ذلك تذكر طفولتي، فلم يكن أمامي إلا لفة من القطن الأسود، محزومة بالحبال، حسب العادات المتبعة .
وعندما كشف عن وجه والدي، لم يكن ذاك وجهه الذي أعرفه، ولكنه كان قناعاً من العظم والجلد المبقع ببقع زرقاء، فأليموس، قد صنع قبل مماته تمثالا ً له من الحجر، قبل أن تحيل النار جسده إلى رماد، فالجسد والروح، يدينان بوجودهما إلى اتحادهما، ولكن الإنفصال يعيد إلى الأرض مالها والطبيعة إلى الأبدية، تعيد التشكيل بدون توقف لأجساد جديدة، وبذات العناصر الخالدة، لقد تأملت جثمان أوليموس بإبتسامة حزينة، وسهرت على جثمان والدي مع قناة أقل من تلك حدث لي مع معلمي، ولكن بحنان أكثر، ودهشت لسؤالي للآلهة " أين هو الآن " لقد تحول يقيني إلى شك، فدست بقدي على أسرار الوسائل والقدر .
- عادت مباركة، لتجثوا بقبربي على ركبتيها، وهي تبكي بهدوء ووضعت يدها على وجه والدي، وكأنها لمسة حنان السنين، فبالنسبة أليها، كان دائماً الرجل، المعلم، وكانت بالنسبة إليه، خادمة سريره، وكاتمة أسراره، والمعجبة به، وأمتزجت حركاتها، ودموعها، معبرة عن ألم يعصر فؤادها، وعندما وصل عمال الموت مع صناديقهم، وسوائلهم، وأدواتهم، ساعدت مباركة، للوصول بها إلى غرفتها، وأجلستها على سريرها، فأستسلمت إلى كطفل رضيع، في ذلك المساء، كنت أنا من أنشد لها أغنية النوم الصغيرة .
وقد بدى لي الموت أقل جللا ً من إهانة، فلم أبك ِ، فلقد علمت بأن والدي ليس إلها، وكان علي من الآن فصاعداً الطلب إلى روما لمساعدتي بالإنتقام لذكراه، وتأسيس جيش ضد " سابور "، ولتاكد الجميع بأن سحق الفرس سيبقى وسيلتي الوحيدة لإنقاذ مدينتي، وتجارها وفاجعة الموت هذه، جعلتني استشعر طريقي، فالموت الأسود الذي انبثق من أشعة الشمس الساطعة اللاهبة، أوثق قلب أبي، وسيسمع الشرق اللاهب كله باسم يتردد، باسم زنوبيا .
المصدر : كتاب الأوراق السرية للملكة زنوبيا .
المؤلف : برنار سيميوث .
ملاحظة : إذا كانت المصادر التاريخية ، التي استقى منها الكاتب " برنار سيميوث " موضوعه ، فإنه قد أكمل بعض الفترات الغامضة تاريخيا ً، إستناداً إلى قاعدة السلسة المكونة من حلقات متتابعة ومرتطبة فيها بينها، بمنطق تاريخي .
مركز كابارا الثقافي جميع الحقوق محفوظة@2016
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق