نقرأ في السفر الأول من التوراة (التكوين) في الفصل الحادي عشر ما نصه: «وكانت الأرض كلها لغة واحدة وكلاماً واحداً. وكان انهم لما رحلوا من المشرق وجدوا سهلاً في ارض شنعار. فأقاموا هناك. وقال بعضهم لبعض: تعالوا نصنع ولخرقه حرقاً، فكان لهم اللبن بدل الحجارة، والحمر كان لهم بدل الطين. وقالوا: تعالوا نبن لنا مدينة، وبرجاً رأسه في السماء، ونقيم لنا اسماً كي لا نتفرّق على وجه الأرض كلها»، هكذا اذن بنى البابليون مدينتهم الأولى بعد الطوفان في سهل شنعار اي بلاد الرافدين الجنوبية، فبنوها مدينة تختلف عن سائر المدن بعظمتها واتساعاتها، فبلغت مساحتها عشرة آلاف كيلومتر مربع اي بقدر مساحة لبنان اليوم.
بابل او باب ايل، باب الاله، او باب الآلهة، او بيت الله، على عكس ما تفسّره التوراة بقولها: « فنزل الرب ليرى المدينة والبرج اللذين بناهما بنو آدم, وقال الرب: هوذا هم شعب واحد ولجميعهم لغة واحدة، وهذا ما اخذوا يفعلونه، والآن لا يكفّون عمّا هموا به حتى يصنعوه، فلننزل ونبلبل هناك لغتهم، حتى لا يفهم بعضهم لغة بعض. ففرقهم الرب من هناك على وجه الأرض كلها، فكفوا عن بناء المدينة، ولذلك سميت بابل، لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها. ومن هناك فرّقهم الرب على وجه الأرض كلّها...».
هذه الرواية التوراتية نعها تحت عدسة النقد الفكري الديني لكشف حقيقة الحقد الدفين لليهود في قلوبهم والى حد هذا اليوم فنقول:
هناك مغالطات عديدة في هذا النص، فقوله: «فنزل الرب ليرى المدينة والبرج» ثم يعود ليقول «فلننزل ونبلبل» فهو بالنص الأول نزل ورأى المدينة والبرج وانتهى كل امر، فلماذا يعود ليقول «فلننزل» ثم يعود الكاتب التوراتي فيقول «ولذلك سميت بابل لأن الرب هناك بلبل لغة الأرض كلها» ما ذنب سكان الأرض ليبلبل الرب ألسنتهم، والذنب ذنب البابليين؟ هذا اولاً. وثانياً: هل كان البابليون منتشرين بكل الأرض وهل كانوا يملكونها. ام ان الكاتب التوراتي حقد على بابل وسكانها لم يرغب ان يسميها بيت الاله او باب الله بل جعلها مركز بلبلة الألسنة، على اية حال بنى البابليون مدينتهم العظيمة والى جانبها او في وسطها برج هو ما يسميه البابليون او العراقيون القدماء «الزقورة - الهيكل» بطبقات عديدة ليكون معبداً للاله الذي سمّوا باسمه مدينتهم بابل. فيظهر بشبه جبل حيث مسكن الاله الأعظم.
يقول اشعيا في معرض كلامه عن بابل: «... فبابل زينة الممالك وبهاء فخر الكلدانيين تصير كدوم وعمورة اللتين قلبهما الله، فلا تسكن ابداً، ولا تعمر الى جيل فجيل ولا يضرب اعرابي فيها خيمة ولا يربض هناك رعاة، بل وحوش القفر تربض هناك والبوم يملأ بيوتهم، وبنات النعام تأوي والتيوس ترقص هناك، والضبوع تعوي في قصورها وبنات آوى في هياكلها، اجَلَها قريب وايامها لا تطول...»، فنتأمل الحقد في قلب رجل النبوة اليهودي، ورغم ذلك، ورغم اشعيا بقيت بابل اعظم مدينة في العالم القديم استمرت الى ما بعد موت اشعيا بمئات السنين.
بابل العظيمة
اول من تكلم عن بابل القديمة هو المؤرخ اليوناني هيرودوتس في القرن الخامس قبل الميلاد، واطال الكلام عن عظمتها، ومثله فعل قطيسياس، طبيب ارتحشتتا الثاني في القرن الرابع قبل الميلاد، ثم ديودورس الصقلّي ابن القرن الأول قبل الميلاد الذي ترك لنا المكتبة التاريخية، وسترابون الذي كتب في القرن الاول المسيحي والذي صوّر في كتابه «الجغرافيا» العالم القديم في بداية الأمبراطورية الرومانية, ولكن من المؤسف ان هذه الآثار سلبت وبنيت بها مدينة الحلة الرابضة قبالة بابل المدينة القديمة.
بابل التي سكنها اكثر من مائة الف نسمة، شرقي الفرات وغربيه مع جسر يربط بين الضفتين، ويستند الى سبعة عواميد، طول الواحد 21 متراً، وعرضه 9 امتار. وارتبطت القرميدات بالحديد والرصاص. اما عدد العواميد فسبعة. مدينة امتدت من الشرق الى الغرب مسافة 2500 متر ومن الشمال الى الجنوب على مسافة 1500 متر، هذا دون ان نسحب الضواحي، خارج جدران كوّنت سورين مستطيلين يحيطان بالمدينة مع حصون بارزة. ابواب المدينة اربعة، واشهرها باب عشتار، هذا الباب يصل الى ايساجيل الذي هو القلب الديني للمدينة مع الزقورة، ذاك المعبد الرائع الجمال الذي لفت انظار اليهود والذي كان مع توابعه مربعاً ضلعه 500 متر، مع العلم انه وجدت معابد اخرى صغيرة في المدينة، مثل معبد انانا. وبين ايساكيل وباب عشتار، كشف قصر بابل الكبير الذي عمل فيه اكثر من ملك. كان محمياً من جهة النهر بواسطة قلعة الى الجنوب، والى الشمال بواسطة سور امامه قلعة اخرى، بقرب هذا القصر كانت «الجنائن المعلقة» جنائن سميراميس التي كانت احدى عجائب الدنيا السبع.
نشير الى ان قصر بابل قد بناه نبويلاسر ونبوخذنصر نبونئيد، وفيه مات الاسكندر في حزيران سنة 323 على ما يبدو. هذا المربّع المنحرف (322 متراً، 190 متراً) تضمّن خمس وحدات متشابهة: في كل وحدة رواق كبير تحيط به قاعات الخدمة الى الشمال، الى الجنوب. القلعات الرسمية، تنفتح على الرواق الثالث، غرفة العرش التي كان طولها 52 متراً، وواجهتها مزيّنة بقرميد مزخرف وبحيوانات تبدو كأنها تسير في طريقها.
اراد الاسكندر المقدوني ان يعيد بناء برج بابل، فأزال الركام، ولكنه ما استطاع استكمال ما بدأ به. فبقيت الأسس بشكل مربع، قياس ضلعه 91 متراً ولكن نتكلم عن المساكن التي توزعت في احياء، مع شبكة طرقات وشبكة مجارير تتشوّق اليها حتى الآن عدد من مدننا في الشرق. كل هذا زال فقال سترابون: نستطيع ان نطبّق على بابل ما قيل عن ميغالوبوليس (المدينة الكبيرة) في اركادية (منطقة في اليونانية اعتبرت مدينة الشعر والأحلام): «لم تعد المدينة الكبيرة سوى قفر كبير».
ونورد هنا صورة عن المدينة بحسب دراسة احد العلماء. «ننتير» = بابل: ذاك هو عنوان مقال دوّن تمجيداً لبابل ودورها كمركز ديني. اخذ اللقب من السطر الأول: تنتير (اسم) بابل التي وهب لها التمجيد والتهليل. انطلق النص، حين دوّن من رقوم بابلية وآشورية كتبت بين القرنين السابع والأول قبل الميلاد، قد تعود الى حكم نبوخذنصر الأول سنة 1225 ق.م تقريباً، حين بدأ العلماء ينسبون الى بابل والى مردوخ، تفوقاً كوسولوجياً (على مستوى الكوسموس، الكون) ولاهوتياً، يسند اسناداً مستمراً تفوّق المدينة على المستوى السياسي.
ما يهمنا الرقم الرابع وجزء من الرقم الخامس، وهو يساعدنا على التعرّف الى تصميم المدينة، تورد الرقيم الرابع اسم 43 معبداً في بابل بدءاً من ايساكيل، معبد مردوخ. وجمع النص المعابد بحسب الأحياء: في حي اريدو 14 معبداً، في كارنيجرا 40. في شوانا 21. في المدينة الجديدة، 30 وفي الرقيم الخامس نجد لائحة بأسوار المدينة واقنيتها وابوابها وشوارعها، دون تحديد موضع كل واحد منها، وينتهي النص بوصف طوبوغرافي يحدد مكان كل حي من احياء المدينة العشرة. امتدت من باب عشتار الى الباب الكبير. وأريدو من الباب الكبير الى باب سوق البائعين.
وشوانا الى باب أوراش. .وهكذا نستطيع ان نتعرّف الى تصميم مدينة بابل مع وجود معابد للأم العظمى ولعشتار (كادنتجيرا) والاله نبو والالاهة اشراتوم، والالاهة نونورتا (شوانا). ولكن متى نستطيع ان نتعرّف الى بابل في العمق؟ نحن ننتظر الحفريات والتنقيبات، ويبقى التاريخ معيناً له بما تسمح به الظروف سيما بعد الأحتلال الأمريكي الصهيوني والتبعية له حتى الآن .
المصدر المادة بقلم الأب سهيل قاشا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق