الحج عبر التاريخ

. . ليست هناك تعليقات:

 "الدائرة هي أكمل الأشكال" ، هذا ما أعلنه (فيثاغورث) في القرن الرابع قبل الميلاد،  وقبله بحوالي نصف قرن كان الفيلسوف (طاليس) يؤكد أن الأرض مستديرة كالقرص تماماً. وتوصل (أنسكمندريس) إلى أنها معلقة في الفضاء.

في الصورة " كعبة زردشت " 

ووسع (بارمنيدس) النظرية، فقال أن الكون كله، ليس إلا كرة تامة الاستدارة. ولم يأت عام 350 قبل الميلاد، حتى كان (ديمقرطيس) قد عمم النظرية على الكون كله، حين انتهى إلى أن الكون كله، يتركب من جسيمات مادية كروية الشكل متناهية في الدقة والصغر، هي الذرة (1).
والعلم الحديث يؤكد أن الكون كله من أكبر أجرامه إلى أدناها، يعتمد الكروية في تشكيله، والاهليجية في حركته (الاهليجية هي الطواف دائرياً على منحنى بيضاوي) ، فالأرض مثلها مثل بقية كواكب المجموعة الشمسية، كرة تطوف على منحنى بيضاوي حول مركز هو الشمس، والشمس كأي نجم كرة نارية تطوف مصطحبة معها كواكبها بنفس الطريقة، حول مركز مجرتها (التبانة)، والمجرات بالملايين والنجوم بالبلايين، وكلها كروية في تشكيلها، ذات طواف اهليجي في حركتها، وينطبق هذا حتى على أدق الأجسام الكونية. فالذرة مجموعة شمسية مصغرة،  إذ هي عبارة عن الكترونات كروية تطوف إهليجياً حول مركز كروي هو نواة الذرة.
والغريب أن الإنسان – منذ فج التاريخ – عندما كان يريد إثبات خضوعه لناموس الكون، كان يضع نقطة اعتبارية يقدسها ويطوف حولها، كطواف الكواكب حول الشمس أو الإلكترونات حول الذرة، كما لو كانت الكروية أو الاستدارة ناموساً قدسياً إلى جانب كونها ناموساً علمياً، ولما كانت المكتشفات الفلكية القديمة (في الرافدين)، قد توقفت عند سبعة كواكب تدور حول الشمس، فيبدو أن ذلك سوغ الإنسان القديم أن يضع لطوافه حول بيوت الآلهة المقدسة وحدة قياسية مقدسة تتكون كن سبعة أشواط،  مع الأخذ في الحسبان أن هذه الكواكب السبعة كانت آلهة في نظره.

الحج في العقائد القديمة

منذ بداية التاريخ الفرعوني، اتخذت مدينة (أبيدوس) مكانة قدسية لا تبارى. فقد اعتقد القوم هناك أن رأس الشهيد (أوزيريس) مدفون فيها. ومع بداية العصر المتوسط الأول، أصبحت زيارة البيت المقدس في (أبيدوس) والطواف حوله سبعة أشواط، حجا وفريضة إجبارية على كل مؤمن بأوزيريس، في حين أمست السنة المستحبة هي الدفن بجــوار حبيبهم، الشهيد، باعتبار جواره وحماه، أقدس وأطهر مكان على الأرض، بل هو في اعتقادهم مركز الكون، حتى أطلق الكهان على مدفن أوزيريس (أباتون) أي الحرم، لأن الغناء أو الطبل أو الصيد، أو حتى مجرد الجهر بالصوت كانت محرمة في (أبيدوس).
وحتى اليوم، لم يزل العامة حول المنطقة ولمسافات بعيدة، يقصدون آبار المياه المقدسة في أبيدوس للإخصاب والاستشفاء دون علم بأصل هذه القدسية الحقيقي. فالمسيحيون يقصدونها معتقدين أنها قبر قديس من أباء الكنسية الأوائل، ويقصدها المسلمون واضعين في حسبانهم أن هذا القبر مقام ولي من الصالحين (2).
وفي بلاد الرافدين تبنت الدول السامية حضارة سومر. وخلال الحضارات التي توالت هناك من (أكد) إلى (بابل) إلى (آشور) إلى (كلديا)، كان المصطلح السومرى ((إيلو) أو (أيل) هو اسم العلم المطلق الدال على الإله المعبود (3)، فكانت (أيل) تطلق على أي رب من الأرباب (4) الذين يربو عددهم على ثلاثة آلاف.
لكن اللسان السامي، أبدل الكلمة السومرية (BIT) بمعنى المعبد، بمقابلها السامي بيت (5) وأضافها إلى (أيل) لتصبح (بيت أيل) أي بيت الله (ولاحظ التقارب في النطق بين أيل والله)، للتدليل على معبد الإله، الذي كان يأخذ عادة شكل الزاقورة وهي شيء أشبه بالمئذنة، يدور حولها سلم صاعد في شكل دائري، وعلى قمتها كانوا يضعون شكلاً هلالياً، رمزاً للإله (سين) إله القمر.

وهو نفس الإله الذي عبده عرب الجنوب تحت اسم (ياسين). كما كان الهلال أيضاً رمزاً للآلهة (عشتروت) كوكب الزهرة، وكانت بيوت الآلهة الرافدية تنتشر بطول البلاد وعرضها، لكن مراكز العبادة الكبرى كانت في المدن، واعتبرت محجات للمؤمنين، خاصة بالآلهين : (سين) و (عشتروت).

وفي كنعان انتشرت بيوت الآلهة، مثل (بيت شماس) و(بيت إناث) و(بيت لحم) و(بيت يراه). ويقول رينيه ديسو (6) "إن هذه البيوت قد اتخذت شكل البناء المكعب، فسمى اللسان الكنعاني بيت المعبود (كعبو). وأوجب كل معبود على أتباعه الحج إلى بيته والطواف حوله سبعاً، ولعل أهم هذه البيوت، ذلك البيت الذي أقامته القبيلة الإبراهيمية بعد هجرتها من مدينة (أور) الرافدية إلى أرض فلسطين، والذي حمل اسم "بيت إيل"، كما يزعم الكتاب المقدس ... حيث ظل (إيل) هو المعبود للشعب العبري منذ إبراهيم عليه الصلاة والسلام حتى ظهور النبي موسى عليه الصلاة والسلام.
ويؤكد (د. جواد على) أن الطواف حول مركز قدسي كان معروفاً لدى قدماء الفرس والنهود والبوذيين والرومان. كذلك نجد في المزامير بالكتاب اليهودي المقدس "أغسل يدي في النقاوة فأطوف بمذبحك يا رب" (الإصحاح 26)، وهو دليل واضح على وجود الطواف عند اليهود، وفي ثنايا حديثه عن الحج، يقول (د. جواد) "أقصد بالحج الذهاب إلى الأماكن المقدسة في أزمنة موقوتة للتقرب إلى الآلهة وإلى صاحب ذلك الموضوع المقدس، وتقابل هذه الكلمة العربية كلمة Pilgrimage في الإنجليزية، والحج بهذا المعنى معروف في جميع الأديان تقريباً. وهو من الشعائر الدينية القديمة عند الساميين. وكلمة حج من الكلمات السامية الأصل الأصيلة العتيقة، من أصل ح ك HG ح ج وهي حك.
وقد وردت في كتابات مختلف الشعوب المنسوبة إلى بني سام. وفي روع الشعوب السامية القديمة أن الأرباب لها بيوت تستقر فيها، ولذلك يرى المتعبدون والمتقون شد الرحال إليها للتبرك بها والتقرب إليها، وذلك في أوقات تحدد وتثبت، وفي أيام تعين تكون أياماً حراماً، لكونها أياماً دينية ينصرف فيها الإنسان إلى التفكير في آلهته ... وتكون هذه المواضع التي تستقرفيها الآلهة وتجعلها بيوتاً لها،  ولذلك قيل في الأزمنة القديمة (بيوت الآلهة)، وقد بقى هذا الاصطلاح حياً حتى الآن يطلق على المعابد، فالمعبد هو وبيت الله في أغلب لغات العالم المعروفة في الزمن الحاضر" (7).

                                                       محجات الجاهليين

أشارت النصوص السريانية واليونانية واللاتينية القديمة إلى وجود الحج عند العرب قبل الإسلام،  غير أنها لم تشر إلى وجود بيت واحد كان يحج إليه العرب جميعاً (8)، ويقول (الهمداني) أن العرب كانت لهم محجات متعددة منها بيت اللات وكعبة نجران وكعبة شداد الأيادي وكعبة غطفان (9)، ويذكر ابن الكلبي بيوتاً أخرى كبيت ثقيف (10). ويشير (الزبيدي) إلى بيت ذي الخلصة الذي كان يدعى الكعبة اليمانية (11)، ويضيف (د. جواد علي) بيوتاً أخرى مثل (كعبة ذى الشرى) وكان حجها يوم 25 كانون أول من كل عام، و(كعبة ذى غابة) الذي لقبه عباده بـ (قدست) أي (القدسي)، كذلك كان لآلهة الصفويين (اللات وديان وصالح ورضا ورحيم) محجاتها، كما كانوا يحجون إلى الكعبة المكية و(بيت اللات) في الطائف و(بيت العزى) قرب عرفات و(بيت مناة)، وغيرها كثيراً. وكان الحج معتاداً في شهر ذى الحجة، وكان الطواف الجاهلي حول البيت الذي يعظمه سبعة أشواط (12).
ويبدو أن تقديس بيوت الآلهة تلك، يرجع إلى اعتقاد الجاهلي في أن إلهه يسكن فوق سطح السماء، وبالتالي فقد يقدس أي جسم فضائي (كالنجوم وبقايا النيازك والشهب المتهاوية إلى الأرض) لتصوره أنه إنما سقط من البيت الإلهي الذي في السماء، وكذلك كان يعتبر هذا الحجر رمزاً لآلهه، فيجعله مركزاً قدسياً يبني حوله بيتاً يطوف به تبركاً،  معتقداً أن هذا البيت يقع تماماً تحت البيت الإلهي،  باعتبار ان حجره المقدس يقع تماماً تحت  المكان الذي سقط منه. 
وأضاف الجاهليون إلى الأحجار النيزكية الأحجار البركانية لتكون محل تقديس، لأنهم خالوها  ساقطة من السماء (13) ربما لسوادها نتيجة انصهارها، مما يجعلها شبيهة بالأحجار النيزكية التي صهرتها حرارة الاحتكاك بالغلاف الغازي قبل سقوطها على الأرض.
ومثال لهذه الأحجار السوداء، معبود النبطيين، وهو حجر أسود يرمز للشمس (14)، والآلهة مناه عبدها الهذليون ممثلة في حجر أسود (15)، كذلك كان "ذو الشرى" حجر أسود (16). وقد تصور الجاهليون أن حجر الكعبة المكية الأسود ومقام إبراهيم مثل بقية أحجارهم المقدسة، حتى ظنوا – كما يقول المسعودي – أن البيت المكي من البيوت التي خططت لعبادة الكواكب السيارة السبعة (17) ولكن للبيت المكي وحجره الأسود قصة أخرى، كما سنرى حين نتطرق إلى الحج في الإسلام، ولكن قبل ذلك ينبغي الوقوف مع البيت المكي في العصر القرشي، نستقري التاريخ اعتقادات الجاهليين حوله.

*المراجع : 

(1) تاريخ الفلسفة اليونانية، يوسف كرم، صـ 12.
(2) ديانة مصر القديمة، أدولف أرمان، صـ 420 : 422. أنظر أيضاً: مصر والحياة المصرية في العصور القديمة أدولف أرمان وهرمان رنكه، صـ 290.
(3) "أبيدوس" د. عبد الحميد زايد، صـ 31 (بالإنجليزية).
(4) الساميون ولغاتهم، د. حسن ظاظا، صـ 28.
(5) الديانة عند البابليين، جان بوتيروا، صـ 94، 134.
(6) العرب في سوريا قبل الإسلام، رينيه ديسو، صـ 120.
(7) المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام، د. جواد علي، ج5، صـ 223، 214، 215.
(8) نفس المرجع، صـ 217.
(9) الإكليل، ج8، صـ 84.
(10) كتاب الأصنام، صـ 16.
(11) تاج العروس، ج2، صـ 271.
(12) المفصل، ج5، صـ 180، 152، 153، 217، 224.


ليس من الضروري أن يكون ما جاء في هذه المادة يوافق رأي مركز كابارا الثقافي 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

الزيارات

تابعنا على الفيسبوك

الأرشيف

من مضمون المقالات

أقسام المدونة :

الصفحة الشخصية

تابعونا

Translate - ترجمة